يعد مدرج بصرى أحد أبرز المعالم التاريخية في سوريا، وأحد الشواهد الباقية على عظمة الحضارة الرومانية التي ازدهرت في المنطقة. يقع هذا المدرج في مدينة بصرى القديمة، التي كانت في العصور الرومانية مركزاً مهماً في جنوب سوريا، ويعتبر من أقدم المدرجات التي لا تزال تحتفظ بجاذبيتها المعمارية والفنية حتى يومنا هذا.
واليوم، يبقى مدرج بصرى من المعالم السياحية البارزة التي يجب على كل محب للتاريخ والثقافة زيارتها. إن جماله وعظمته لا مثيل لهما في العالم، وهو حقاً تجربة لا تُنسى لكل من يزور هذا المكان الرائع.
تاريخ بناء مدرج بصرى وتطوره عبر العصور:
يعود تاريخ بناء مدرج بصرى إلى القرن الثاني الميلادي، في فترة حكم الإمبراطورية الرومانية، حيث كان هذا المدرج جزءاً من المدينة الرومانية الكبرى التي كانت تعرف بـ "بصرى الشام". تم تشييد المدرج في عهد الإمبراطور تراجان أو هادريان، وكان الهدف الأساسي من بنائه توفير أماكن مخصصة للترفيه الجماعي، حيث احتضن فعاليات مثل العروض المسرحية والمباريات الرياضية والمصارعة التي كانت شائعة في تلك الحقبة.
يبلغ طول المدرج نحو 102 متراً وعرضه 87 متراً، ويستوعب حوالي 15,000 متفرج، مما يجعله واحداً من أكبر وأفضل المدرجات الرومانية المحفوظة في العالم القديم. وقد شهد المدرج تعديلات معمارية على مر العصور، خصوصاً خلال الفترة البيزنطية، حيث أضيفت له بعض التحسينات الدفاعية، وفي العصر الإسلامي، استُخدم كقلعة دفاعية لحماية المدينة.
على الرغم من مرور الزمن والتغيرات السياسية في المنطقة، ظل مدرج بصرى قائماً شامخاً على مر العصور، شاهداً على عراقة المدينة وتاريخها.
الخصائص المعمارية لمدرج بصرى: تصميمه الفريد وتفاصيله الرومانية
يمتاز مدرج بصرى بتصميمه الروماني الفريد الذي يعكس براعة المهندسين الرومان في بناء المسارح الضخمة. تم تشييد المسرح باستخدام الحجر البازلتي المحلي، مما منحه طابعاً متيناً وملائماً للبيئة المحلية. إليك التفاصيل الأساسية لتصميم المدرج:
التصميم العام:
تم تصميم المسرح بأسلوب المسارح الرومانية التقليدية، حيث يقع على أرض مستوية ويأخذ شكلاً نصف دائري. المنصة عريضة وقليلة الارتفاع نسبياً، ويبلغ طولها 45.5 متراً وعمقها 8.5 متراً. كما تم بناء المدرج بشكل يسمح للمشاهدين برؤية واضحة وسماع كل ما يجري في باحة العرض بوضوح.
المدرج والمقاعد:
يتكون المدرج من 37 صفاً من المقاعد المتصلة، حيث كانت المقاعد العلوية مخصصة للطبقات العليا مثل الشيوخ والفرسان، بينما كانت الصفوف السفلى مخصصة للعامة. يوجد أيضاً ممر يفصل بين الصفوف ويليه 5 صفوف إضافية للعامة. كانت المقاعد موزعة بطريقة تتيح للجميع رؤية العروض بشكل ممتاز. كما كان يتم الوصول إلى هذه المقاعد عبر أدراج صاعدة تحت ممرات معقودة، ما كان يساهم في تسهيل دخول وخروج الجمهور بسرعة.
المنصة والكواليس:
تقع منصة التمثيل في وسط المسرح، وهي محاطة بأبواب تؤدي إلى الكواليس، حيث يتم تحضير الممثلين والفعاليات. المنصة مزينة بـ محاريب وأبواب كبيرة، وتحتوي على شرفات على الجانبين حيث كان يجلس حاكم الولاية وكبار المسؤولين والزوار. وراء الجدار الغربي للمنصة توجد باحة مكشوفة كانت تستخدم للاستراحة.
الرواق والأعمدة:
يتميز مدرج بصرى بـ رواق مسقوف تدعمه أعمدة دائرية وكورنثية، ما يضفي على المكان طابعاً مهيباً. يُعتبر مدرج بصرى المثال الوحيد في العالم الذي يحتفظ ببعض أعمدة الرواق، بالإضافة إلى الأفاريز التي تعلو الأعمدة والتي لا تزال قائمة في موضعها الأساسي.
الممرات المعقودة:
توجد ممرات معقودة تحت المدرج تتيح للجمهور الدخول والخروج بسرعة ويسر، ويقال إن وقت الدخول والخروج كان يستغرق دقائق قليلة فقط.
السعة والاستماع:
كان المسرح يتسع لحوالي 10,000 إلى 15,000 مشاهد، وقد تمت هندسته بحيث يستطيع كل مشاهد رؤية العروض بوضوح وسماع كل ما يجري في باحة العرض بفعالية.
يعد مدرج بصرى من المسارح الرومانية القليلة التي حافظت على بنائها الأصلي بشكل متقن.
للاطلاع على المزيد من المعالم السياحية الرومانية في سوريا يمكنك زيارة مقالنا عن تدمر
استخدامات مدرج بصرى عبر العصور:
منذ العصور الرومانية، كان مدرج بصرى يُستخدم كمنصة للترفيه الجماعي، حيث احتضن الألعاب الرومانية مثل المبارزات وعروض الحيوانات البرية، وهي فعاليات كانت تجمع بين المتعة والاستعراض الإمبراطوري. وخلال العصر البيزنطي، تغيّر دوره ليصبح مسرحاً للعروض الدينية والمسرحية، التي كانت جزءاً من الطقوس المسيحية في ذلك الوقت.
مع بداية العصر الإسلامي، لم يعد المدرج يُستخدم كفضاء ترفيهي، بل اكتسب أهمية استراتيجية وعسكرية، حيث تم تحصينه وتحويله إلى قلعة دفاعية لحماية المدينة من الغزوات. أُضيفت إليه الجدران الدفاعية والأبراج، وأصبح جزءاً من نظام التحصينات الإسلامية في المنطقة، وهو ما ساعد على بقائه صامداً حتى اليوم.
مدرج بصرى في العصر الحديث وأهميته السياحية:
اليوم، يُعتبر مدرج بصرى واحداً منأفضل 10 معالم سياحية في سوريا، وهو مدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو نظراً لأهميته التاريخية والمعمارية. لا يزال يحتفظ ببنيته الأصلية بشكل استثنائي، مما يجعله أحد أفضل المسارح الرومانية المحفوظة في العالم.
إلى جانب كونه من المعالم السياحية الرئيسية، يستضيف المدرج أحياناً فعاليات ثقافية وفنية، مثل المهرجانات الموسيقية والعروض المسرحية، التي تُعيد إحياء دوره كفضاء للفنون والعروض. كما يجذب المدرج الباحثين وعشاق التاريخ من جميع أنحاء العالم، كونه شاهداً على تاريخ طويل يجمع بين الحضارة الرومانية، البيزنطية، والإسلامية.
ختاماً:
يظل مدرج بصرى شاهداً خالداً على تعاقب الحضارات، حيث اجتمع فيه الفن، الثقافة، والتاريخ في تناغم يعكس عظمة الإنسان عبر العصور. من ساحة العروض الرومانية إلى دوره كحصن إسلامي، ثم تحوله إلى أحد أهم المعالم السياحية في سوريا، يمثل هذا المدرج جسراً يربط الماضي بالحاضر، جامعاً بين عبقرية الهندسة القديمة وروح الفعاليات المعاصرة.
زيارة مدرج بصرى ليست مجرد جولة بين الأحجار العتيقة، بل رحلة عبر الزمن تأخذك إلى أجواء الحضارات التي صنعت تاريخه، حيث يروي كل حجر فيه قصة من الإبداع، الصمود، والتاريخ العريق. إنه ليس مجرد معلم أثري، بل رمزٌ للهوية والتراث الإنساني، يواصل إبهار زواره وإلهام الأجيال القادمة.