post-thumb

12-03-2025

عندما يحلُّ شهر رمضان في تركيا، لا تقتصر الزينة على الأضواء والفوانيس، بل تُضيء السماء برسائل من النور تمتد بين مآذن المساجد الكبرى، تُعرف باسم "المحيا". هذه الكلمات المضيئة ليست مجرد زينة، بل رسائل تحمل معاني الإيمان والروحانية، تهمس للقلوب بأن رمضان قد جاء حاملاً معه البركة والرحمة.

اليوم، ورغم تطور التقنيات، لا يزال المحيا يحتفظ بسحره القديم، شاهداً على ارتباط تركيا العميق بتراثها الإسلامي. في هذا المقال، سنبحر في تاريخ هذا الفن المضيء، ونستكشف كيف بدأ، وكيف استمر حتى يومنا هذا، وما الرسائل التي ينقلها عبر الزمن.

المحيا

ما هو المحيا؟

المحيا هو فن تزيين المساجد بعبارات مضيئة تُعلق بين المآذن خلال شهر رمضان، وتُستخدم لإيصال رسائل دينية وإيمانية تعكس روحانية الشهر الفضيل. يُعد هذا التقليد جزءاً من الهوية البصرية الرمضانية في تركيا، حيث تُزين المساجد الكبرى بعبارات مثل "رمضان مبارك"، "لا إله إلا الله"، و"مرحبا يا رمضان"، فتتحول السماء إلى لوحة نورانية تحمل معاني السلام والبركة.

تعود كلمة "محيا" إلى أصول فارسية، حيث تعني "نور الوجه" أو "القمر"، وهو ما يعكس جوهر هذا الفن الذي يعتمد على الأضواء لإضفاء لمسة جمالية على المساجد. 

المحيا

تاريخ المحيا: من المصابيح الزيتية إلى الأضواء الحديثة

البداية الأولى للمحيا

يعود هذا تقليد إلى العصر العثماني، حيث بدأ لأول مرة في القرن السابع عشر خلال عهد السلطان أحمد الأول. تشير المصادر التاريخية إلى أن الظهور الأول له كان في جامع السلطان أحمد (المعروف بالجامع الأزرق) في إسطنبول، حيث تم تعليق مصابيح زيتية بين المآذن لتشكيل عبارات دينية احتفالاً بشهر رمضان.

التطور في العهد العثماني

مع مرور الوقت، أصبح المحيا تقليداً راسخاً في الإمبراطورية العثمانية، وتم تطوير تصاميمه لتشمل عبارات قرآنية، أدعية، ورسائل ترحيبية بشهر رمضان. كانت هذه المصابيح الزيتية تُضاء ليلاً، وتُغير العبارات على مدار الشهر لتعكس روحانيته.

التحول إلى الأضواء الكهربائية

في أوائل القرن العشرين، ومع دخول الكهرباء، شهد المحيا تحولاً كبيراً، حيث استُبدلت المصابيح الزيتية بالأضواء الكهربائية، مما جعل العبارات أكثر وضوحاً وسهولة في التغيير والتصميم. وقد ساهم هذا التطور في انتشاره في مختلف المدن التركية، مثل إسطنبول، بورصة، وأدرنة، حيث تُزين المساجد الكبرى به خلال رمضان.

استمرار المحيا في العصر الحديث

اليوم، لا يزال المحيا حاضراً كأحد التقاليد الرمضانية المميزة في تركيا، حيث يُزين المساجد التاريخية مثل جامع السليمانية، وجامع الفاتح، وجامع آيا صوفيا بعبارات مضيئة ترحب بالشهر الكريم وتحث على القيم الإسلامية.

ورغم تغير الزمن، يظل هذا التقليد شاهداً على التراث العثماني والإسلامي، ويُعتبر واحدًا من أروع الفنون التقليدية التي تربط بين الماضي والحاضر، حيث ما زال يبعث في قلوب المسلمين إحساساً بالروحانية والفرحة عند رؤيته في ليالي رمضان.

المحيا

عبارات المحيا: رسائل مضيئة تزين ليالي رمضان

تتضمن العبارات المضيئة المستخدمة في جوامع إسطنبول في رمضان مجموعة متنوعة من الكلمات والتعبيرات، منها:

عبارات ترحيبية بالشهر الكريم:

  • "Hoş Geldin Ya Şehri Ramazan" – مرحباً بك يا شهر رمضان
  • "On Bir Ayın Sultanı" – سلطان الأحد عشر شهراً (إشارة إلى تميز رمضان عن بقية شهور السنة)

عبارات دينية وأدعية:

  • "La İlahe İllallah" – لا إله إلا الله
  • "Ya Rahman Ya Rahim" – يا رحمن يا رحيم
  • "İman, Sabır, Şükür" – إيمان، صبر، شكر

عبارات تحث على الفضائل:

  • "Oruç Tut, Sıhhat Bul" – صُم، تنعم بالصحة
  • "Sadaka Kapıyı Açar" – الصدقة تفتح الأبواب
  • "İyilik Yap, Karşılık Bekleme" – افعل الخير ولا تنتظر مقابلاً

عبارات تعكس قضايا العصر:

  • "Maske, Mesafe, Temizlik" – الكمامة، التباعد، النظافة (خلال فترة جائحة كورونا)
  • "Birlikte Güçlüyüz" – معاً نحن أقوى
المحيا

أهمية المحيا في الثقافة التركية:

يشكل المحيا عنصراً مميزاً في المشهد الرمضاني التركي، حيث يعكس روح الاحتفال بالشهر الكريم من خلال الأضواء التي تحمل معاني الإيمان والتوجيه الأخلاقي. هذا التقليد، الذي امتد لعصور، لم يكن مجرد زينة، بل وسيلة لنشر القيم الإسلامية بأسلوب بصري جذاب، مما جعله جزءاً من الذاكرة الجماعية للمجتمع التركي.

إلى جانب دوره الديني، فهو يساهم أيضاً في خلق بيئة من الترابط الاجتماعي، حيث يتجمع السكان لمشاهدة العبارات المضيئة التي تتغير يومياً، مما يعزز روح المشاركة والاهتمام بالتقاليد. كما أن وجوده في المساجد التاريخية الكبرى يجعل منه عامل جذب سياحي، حيث يقصده الزوار خلال شهر رمضان للاستمتاع بجمالياته والتقاط الصور التذكارية.

للاطلاع على المزيد من المقالات حول رمضان في تركيا يمكنك زيارة المقال التالي: مائدة الإفطار التركية في رمضان

جهود الحفاظ على المحيا: بين الدعم الرسمي والتطور التكنولوجي

هناك محاولات عديدة لضمان بقاء المحيا كجزء من التراث الرمضاني التركي، ومن أبرزها:

  1. دعم المؤسسات الدينية والثقافية
    تعمل رئاسة الشؤون الدينية التركية (Diyanet) بالتعاون مع البلديات على تمويل مشاريع المحيا في المساجد الكبرى، لضمان استمراريته كرمز رمضاني.
  2. توظيف التكنولوجيا للحفاظ على التقليد
    تم تحديث تنفيذ المحيا باستخدام مصابيح LED وتقنيات الإضاءة الرقمية، مما يجعله أكثر كفاءة واستدامة من حيث استهلاك الطاقة، مع الحفاظ على طابعه الجمالي التقليدي.
  3. إعادة تدريب الحرفيين الجدد
    يتم تنظيم ورش عمل وبرامج تدريبية لتعليم الحرفيين الجدد أساليب تنفيذ المحيا، مما يساعد في توريث هذا الفن للأجيال القادمة.
  4. الترويج السياحي والثقافي للمحيا
    تسعى تركيا إلى الترويج للمحيا عالمياً من خلال إدراجه في الفعاليات الثقافية المرتبطة بشهر رمضان، وجعله عنصراً أساسياً في الجولات السياحية للمساجد العثمانية.
المحيا

ختاماً:

في ليالي رمضان، حين تمتد الأضواء بين مآذن المساجد، لا يكون المحيا مجرد فن بصري، بل لغة من النور تحكي قصة قرونٍ من التراث الإسلامي والتقاليد العثمانية. إنه رسالة إيمانية تُخاطب القلوب، وتعكس عمق الارتباط بين الدين والفن في الثقافة التركية.

ومع كل رمضان جديد، يتجدد بريق المحيا، ليضيء ليس فقط المآذن، بل قلوب المسلمين الذين يرونه رمزاً للإيمان، الوحدة، والجمال الذي لا يخبو مع الزمن.