post-thumb

09-03-2025

مع اقتراب الفجر، وبينما تغط الشوارع في سبات عميق، يقطع هدوء الليل صوت إيقاعي مألوف يتردد بين الأزقة. إنه المسحراتي، ذاك الحارس الليلي لروح رمضان، الذي يجوب الأحياء بطبلته، يوقظ الصائمين برفق ليعدّوا أنفسهم للسحور.

المسحراتي ليست مجرد عادة رمضانية، بل طقسٌ يحمل في طياته ذكريات طفولية دافئة وروابط اجتماعية قوية. وعلى الرغم من أن العصر الحديث جاء بالمنبهات والهواتف الذكية، إلا أن هذا التقليد ما زال ينبض بالحياة في بعض الأماكن، محافظاً على رونقه الخاص. فكيف بدأت هذه العادة؟ وكيف تطورت عبر الزمن؟ هذا ما سنكتشفه في السطور القادمة.

المسحراتي

متى بدأت مهنة المسحراتي؟

تعود مهنة المسحراتي إلى بدايات التاريخ الإسلامي، حيث كان الصحابي بلال بن رباح يؤذن للسحور، بينما كان عبد الله بن أم مكتوم يؤذن للإمساك، مما شكّل أول نظام لتنبيه الصائمين. ومع تطور المجتمعات الإسلامية، بدأ الحكام والولاة يعتمدون على أفراد مختصين يجوبون الشوارع لإيقاظ الناس، تُشير بعض المصادر إلى أن عنبسة بن إسحاق كان أول من نادى بالتسحيرعام 228 هـ. حيث كان يذهب ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور.

في الدولة العثمانية، أصبح هذا التقليد جزءاً أساسياً من الأجواء الرمضانية، وعُرف المسحراتي باسم "Ramazan Davulcusu"، حيث كان يحمل طبلة كبيرة (Davul) ويجوب الأحياء ليوقظ الصائمين قبل الفجر. لم يكن دوره يقتصر على قرع الطبل، بل كان يُنشد الأدعية والأبيات الشعرية، مما جعل وجوده عنصراً مميزاً يضفي طابعاً روحانياً واجتماعياً على رمضان في تركيا.

المسحراتي

كيف يوقظ المسحراتي الناس للسحور؟ 

رغم اختلاف أساليب المسحراتي من بلد إلى آخر، إلا أن هناك عناصر مشتركة تميز هذه العادة، حيث يستخدم المسحراتي عدة وسائل تقليدية لإيقاظ الصائمين للسحور.

  1. قرع الطبل أو المزمار: يحمل المسحراتي طبلة أو مزماراً، ويقوم بالعزف عليها بهدف إيقاظ الناس قبل صلاة الفجر
  2. ترديد الأناشيد والتهليلات: يردد المسحراتي عبارات دينية وأدعية، مثل: "يا نايم وحّد الدّايم"، "يا غافي وحّد الله"، و"قوموا إلى سحوركم جاء رمضان يزوركم". ​
  3. النداء بأسماء السكان: في بعض المناطق، ينادي المسحراتي بأسماء أهل الحي أو يلقبهم بكنياتهم، مما يعزز الروابط الاجتماعية ويضفي طابعاً شخصياً على مهمته. 
  4. طرق الأبواب بالعصا: في بعض البلدان، كان المسحراتي يدق أبواب المنازل بعصا أو نبوت لإيقاظ السكان، خاصة في المناطق التي لا تعتمد على الأدوات الموسيقية.
  5. استخدام آلات النفخ: في المغرب، يُطلق على المسحراتي "النفار" نسبة إلى آلة النفخ النحاسية الطويلة التي يستخدمها لإيقاظ الناس للسحور.

لاطلاع على المزيد من المقالات حول رمضان في تركيا، يمكنك زيارة المقال التالي: مدفع رمضان

المسحراتي في تركيا

المسحراتي في المجتمع التركي: أكثر من مجرد تقليد رمضاني

على الرغم من التطور التكنولوجي ووجود المنبهات الحديثة، لا يزال المسحراتي جزءاً من تراث رمضان في تركيا، حيث يجوب الشوارع بطبلته، مرتدياً الزي العثماني التقليدي أثناء تجواله.

  • دور اجتماعي يعزز الترابط بين الجيران
    المسحراتي ليس مجرد شخص يقرع الطبل، بل هو شخصية مألوفة في الحي، يتفاعل مع الناس، وينادي عليهم بأسمائهم، مما يجعل لوجوده نصيب من روح المجتمع التركي خلال رمضان. فالكثير من العائلات تنتظر مروره، ويتعامل الأطفال معه بحماس وفرحة.
  • التكريم والتقدير من السكان
    رغم أن المسحراتي يؤدي دوره دون مقابل رسمي، إلا أن سكان الأحياء يكرمونه في ليلة العيد من خلال تقديم العيدية، وهي عبارة عن مبلغ مالي أو هدية رمزية تعبيراً عن شكرهم له على جهوده طوال الشهر. في بعض القرى، يظل المسحراتي ينتقل بين المنازل بعد انتهاء رمضان ليجمع مكافأته بطريقة احتفالية.
  • اهتمام البلديات بهذا الإرث الثقافي
    لم يعد المسحراتي مجرد شخص عشوائي، بل يتم تنظيم عمله من قبل البلديات التي تمنحه تصاريح رسمية لممارسة هذا الدور. كما يتم تقديم دورات تدريبية لتعليم المسحراتية الجدد فنون قرع الطبل، مثلما فعلت مدينة أدرنة، حيث شارك عشرات الأشخاص في دورة متخصصة لتعلم الإيقاعات العثمانية التقليدية الخاصة بالمسحراتي.
  • تراجع الدور في المدن الكبرى واستمراره في القرى
    لا يزال المسحراتي حاضراً في بعض المدن التركية، لكنه أصبح أكثر انتشاراً في القرى والمناطق الريفية، حيث يظل الناس مرتبطين بالتقاليد الرمضانية الأصيلة.

يبقى المسحراتي في المجتمع التركي أكثر من مجرد مهنة رمضانية، بل هو إرث ثقافي وروحي يُحافظ عليه جيلاً بعد جيل، ليحمل معه أصوات الماضي في ليالي رمضان الحافلة بالروحانية.

المسحراتي في تركيا

المسحراتي بين الماضي والحاضر: تقليد يتحدى الزمن

رغم أن مهنة المسحراتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالمجتمعات الإسلامية القديمة، إلا أن هذا التقليد لم يقتصر على الماضي فحسب، بل استطاع أن يصمد أمام التغيرات الزمنية ليظل حاضراً في بعض المناطق حتى اليوم. ومع ذلك، فقد شهد هذا الدور تطورات عديدة، حيث بات البعض يستخدم مكبرات الصوت بدلاً من الطبول، أو يضيف لمسته الخاصة من خلال تقديم أدعية وأذكار فريدة.

في المدن الحديثة، أصبح المسحراتي أقل شيوعاً، نظراً لاعتماد الكثيرين على المنبهات والتكنولوجيا، لكن في بعض القرى والأحياء الشعبية، لا يزال الناس ينتظرون صوته المميز الذي يعيد لهم أجواء رمضان في تركيا. وهكذا، يبقى المسحراتي رمزاً من رموز رمضان، يتجدد في الذاكرة الجماعية للمسلمين، محافظاً على طابعه التراثي رغم التحولات العصرية.

المسحراتي في اسطنبول

ختاماً:

على مر العصور، ظل المسحراتي جزءاً لا يتجزأ من روح رمضان في تركيا، حاملاً معه عبق الماضي ورونق العادات القديمة. ورغم تغير الكثير من تفاصيل الحياة، إلا أن صوته لا يزال يتردد في بعض الأحياء، حيث يضيف لمسةً دافئةً تُعيد إلى الأذهان ليالي رمضان الأصيلة.

سواء بقي هذا التقليد حياً كما هو، أو تحول إلى مجرد ذكرى جميلة ترويها الأجيال، فإن المسحراتي سيظل رمزاً للشهر الفضيل، وشاهداً على زمنٍ كانت فيه البساطة والتواصل الإنساني هما جوهر الاحتفال برمضان.